بحث حول الصابئة

اشارة

نام كتاب: بحث حول الصابئة

موضوع: فقه استدلالي

نويسنده: خامنه اي، سيد علي بن جواد حسيني

تاريخ وفات مؤلف: ه ق

زبان: عربي

قطع: وزيري

تعداد جلد: 1

ناشر: مؤسسه دائرة المعارف فقه اسلامي بر مذهب اهل بيت عليهم السلام

تاريخ نشر: 1417 ه ق

نوبت چاپ: اول

مكان چاپ: قم- ايران

ملاحظات: مجله فقه اهل بيت عليهم السلام(عربي) شماره 4

مقدمة

لقد أولي النظام الإسلامي بما له من شمولية و مبادئ إنسانية الأقليات الدينية و الطوائف غير المسلمة عناية فائقة و بني الكيان الاجتماعي علي أساس التعايش السلمي و ضمان حقوق الجميع تدور هذه الدراسة القيمة حول تحديد نظرة الشريعة الإسلامية تجاه فرقة الصابئة و هل أنهم من أهل الكتاب أو لا و قد عقد سماحة السيد (دام ظله) البحث في محورين: أولهما البحث الكبروي في تحقيق المراد بأهل الكتاب و ما هو الموقف فقهيا عند الشك ثانيهما البحث الصغروي في الاستدلال علي كون فرقة الصابئة من أهل الكتاب.

فقه أهل البيت (عليهم السلام) العدد الرابع السنة الأولي.

بسم الله الرحمن الرحيم و الحمد لله رب العالمين و الصلاة علي سيدنا محمد و له الطاهرين.

إن القول بجريان أحكام أهل الذمة أو عدم جريانها عليهم يحتاج إلي زيادة فحص في أدلة الحكم و أيضا إلي بحث و تتبع جادين في معرفة الموضوع، إذ عمدة الإشكال في حكمهم ناشي ء من عدم المعرفة بحالهم و حقيقة دينهم و اعتقادهم،

و لا بد أولا من نقل الكلمات فيهم:

قال الشيخ المفيد:

«1» و قد اختلف فقهاء العامة في الصابئين و من ضارعهم في

______________________________

(1) المقنعة: 270.

بحث حول الصابئة، ص: 8

الكفر سوي من ذكرناه من الأصناف الثلاثة فقال مالك بن أنس و الأوزاعي: كل دين بعد دين الإسلام سوي اليهودية و النصرانية فهو مجوسية و حكم أهله حكم المجوس ثم استمر في نقل الكلمات في تسويتهم مع المجوس ثم قال رحمه الله: فأما نحن فلا نتجاوز بإيجاب الجزية إلي غير من عددناه لسنة رسول الله (صلي الله عليه و آله) فيهم و التوقيف الوارد عنه في أحكامهم.

ثم قال رحمه الله في مقام استبعاد ما ذكره القوم من تسوية الصابئة للمجوس: فلو خلينا و القياس لكانت

المانوية و المزدقية و الديصانية عندي بالمجوسية أولي من الصابئين لأنهم يذهبون في أصولهم مذاهب تقارب المجوسية و تكاد تختلط بهما.

ثم ذكر بعض النحل المهجورة، و بين قربها من النصرانية أو من مشركي العرب، ثم قال رحمه الله: فأما الصابئون فمنفردون بمذاهبهم ممن عددناه لأن جمهورهم يوحد الصانع في الأزل، و منهم من يجعل معه هيولي في القدم صنع منها العالم فكانت عندهم الأصل و يعتقدون في الفلك و ما فيه الحياة و النطق و أنه المدبر لما في هذا العالم، و الدال عليه، و عظموا الكواكب و عبدوها من دون الله عز و جل و سماها بعضهم ملائكة و جعلها بعضهم آلهة و بنوا لها بيوتا للعبادات، و هؤلاء بالقياس إلي مشركي العرب و عباد الأوثان أقرب من المجوس لأنهم وجهوا عبادتهم إلي غير الله سبحانه في التحقيق و علي القصد و الضمير، و سموا من عداه من خلقه بأسمائه جل عما يقول المبطلون. إلي آخر كلامه الشريف الذي سلك فيه مسلك الفقيه المتكلم، و عمد إلي إبطال حجه فتوي الخصم بكون الصابئة من أهل الذمة، من طريق الخدشة في مشابهة المقيس و المقيس عليه.

و هو في غاية الجودة و الإتقان إذا فرض أن ما نسبه رحمه الله إلي الصابئة من العقائد هي العقائد المقبولة لديهم و هي التي تشكل أصول دينهم و نحلتهم، و سوف تعرف الكلام في ذلك.

بحث حول الصابئة، ص: 9

و قال الشيخ رحمه الله في الخلاف:

«2» الصابئة لا يؤخذ منهم الجزية و لا يقرون علي دينهم، و به قال أبو سعيد الإصطخري، و قال باقي الفقهاء: إنه يؤخذ منهم الجزية، دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم، و أيضا قوله تعالي فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «3» و

قال فَإِذٰا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقٰابِ «4»، و لم يأمر بأخذ الجزية منهم، و أيضا قوله تعالي قٰاتِلُوا الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ لٰا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لٰا يُحَرِّمُونَ مٰا حَرَّمَ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ لٰا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ حَتّٰي يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صٰاغِرُونَ «5»، فشرط في أخذ الجزية أن يكونوا من أهل الكتاب، و هؤلاء ليسوا من أهل الكتاب انتهي كلامه رفع الله مقامه.

فاستناده إلي الآيتين بضميمة أنه لم يأمر بأخذ الجزية منهم، بمنزلة تأسيس أصل عام في معاملة الكفار، و حاصله: إن مقتضي الآيتين قتال الكفار إلا من أمر بأخذ الجزية منهم، و هؤلاء لم يرد الأمر بالجزية في حقهم.

و أما استناد ذلك إلي آية الجزية فهو متوقف علي أمرين: الأول: دلالتها علي عدم الجزية بالنسبة لغير من أوتي الكتاب و لو بضميمة رواية عبد الكريم الهاشمي. «6»

الثاني: إثبات كون الصابئة من غير «الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ» * أو قل: عدم إحراز كونهم من الذين أوتوا الكتاب، و سوف نذكر في ذلك ما هو المؤدي إليه نظرنا إن شاء الله تعالي.

و قال الطبرسي رحمه الله في تفسير قوله تعالي إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا*

. وَ الصّٰابِئِينَ* «7» بعد نقل كلمات الفقهاء و أهل اللغة في معني الصابئة و ما هم عليه من الاعتقاد: و الفقهاء بأجمعهم يجيزون أخذ الجزية منهم، و عندنا لا يجوز ذلك لأنهم ليسوا بأهل كتاب، انتهي. «8»

و استدلاله يشبه ما مر من الخلاف.

و في تفسير علي بن إبراهيم في بيان قوله تعالي إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هٰادُوا.*

«9»، قال (يعني علي بن إبراهيم): الصابئون قوم لا مجوس و لا يهود

______________________________

(2) الخلاف 5: 542.

(3) التوبة: 5.

(4) محمد (ص): 4

(5) التوبة: 29.

(6) و هي الصحيحة المذكورة في الباب 9 من أبواب جهاد العدو من الوسائل، الحديث 2، و محل الاستدلال فيها قوله (ع) بعد تلاوة آية الجزية:

«فاستثناء الله تعالي و اشتراطه من أهل الكتاب فهم و الذين لم يؤتوا الكتاب سواء؟!. الحديث» حيث إن الظاهر من استفهام الإمام (ع) الذي وقع في مقام الاستنكار- أن مفهوم اللقب في الآية الشريفة حجة.

(7) البقرة: 62.

(8) مجمع البيان 1: 249. دار التقريب.

(9) البقرة: 62.

بحث حول الصابئة، ص: 10

و لا نصاري و لا مسلمون، و هم يعبدون الكواكب و النجوم. «10»

و في الجواهر بعد ما نقل عن ابن الجنيد تصريحه بأخذ الجزية منهم

، قال: و لا بأس به أن كانوا من إحدي الفرق الثلاث ثم أخذ في ذكر أقوال من صرحوا بكون الصابئة داخلة في إحدي تلك الفرق، مع ما فيها من التضارب ثم قال: و حينئذ يتجه قبول الجزية منهم. ثم ذكر بعده أقوال من ينسبهم إلي عبادة النجوم و أمثالها، و أضاف: و عليه يتجه عدم قبولها منهم إلي آخر كلامه «11».

و لكن الظاهر من كلام ابن الجنيد

رحمه الله المذكور في مختلف العلامة رحمه الله أنه حكم بدخول الصابئة في من يؤخذ منهم الجزية كفرقة مستقلة عن الفرق الثلاث المذكورين قبلها، لا كجزء منها، كما أن هذا ينبغي أن يكون هو المراد في كلام من يعتقد بأخذ الجزية من الصابئة و إلا فأخذ الجزية من جميع الديانات الثلاث مما لا يختلف فيه اثنان. «12»

و الذي يتحصل من الأقوال:

أولا: أنه ليس في المسألة إجماع من أصحابنا و ذلك لمخالفة ابن الجنيد رحمه الله الذي هو من الذين لا بد أن يعتني بقولهم في تحقق الإجماع و عدمه، و لأن فتوي العلماء بعدم أخذ الجزية من الصابئة إنما تنشأ مما وصلوا إليه في تشخيص الموضوع أعني كون هؤلاء من غير أهل الكتاب، كما عرفت ذلك في كلام المفيد و القمي و الطبرسي و غيرهم إلي صاحب الجواهر رحمه الله، و أين هذا من الإجماع الحجة الذي يحكي عن حكم الله تعالي في موضوع محدد معلوم؟! و ثانيا: أن الموضوع في هذه المسألة مما لم ينقح من قبل فقهائنا، لا بالفحص الخارجي بالتتبع في أحوال منتحلي هذه النحلة و استماع عقائدهم منهم أو فهمها من كتبهم و أسفارهم، و لا بمقارنة ما قيل عنهم بتاريخهم أو بعضها ببعض حتي يحصل من ذلك ما يمكن الركون إليه في معرفة هذه الفرقة التي ذكر اسمها في القرآن الكريم ثلاث مرات.

______________________________

(10) تفسير علي بن إبراهيم: 48.

(11) جواهر الكلام 21: 230- 231.

(12) راجع كلام ابن جنيد في المختلف 4: 431. ط مؤسسة النشر الإسلامي.

بحث حول الصابئة، ص: 11

نعم ربما يوجد في بعض كتب الملل و النحل ما يلقي الضوء علي شطر من عقائدهم و نبذة من تاريخهم، و إن كان هذا غير

كاف في إحراز الموضوع في مسألة عصمة الكافر و أخذ الجزية منه و عدمها، و لعل هذا الإعراض أو قلة الاهتمام في إحراز الموضوع جاء نتيجة لعدم الابتلاء كثيرا بحكمه، لا سيما لأمثال فقهائنا الكرام الذين كانوا بمعزل عن الحكم و إدارة شئون المجتمع و غير مبتلين بمسألة أخذ الجزية من الكافر أو محاربته، لا في العمل و لا حتي في الإفتاء و بيان الحكم.

ثم بعد ما ثبت أنه ليس هناك إجماع يمكن الركون إليه، فتنقيح المسألة يتوقف تارة علي الفحص عن الأدلة اللفظية من العمومات و الإطلاقات التي ربما يتحصل منها قاعدة كلية شاملة لمثل المقام، أو ما يمكن الاستدلال به أحيانا في خصوص هذا المورد، أو ما هو مقتضي الأصول العملية علي فرض خلو المسألة عن الدليل الاجتهادي.

و أخري علي زيادة تتبع و تنقيب لمعرفة الموضوع و إلقاء الضوء علي الزوايا المعتمة منه.

فهناك محوران للبحث

اشارة

، فالمحور الأول منهما يتضمن أربعة أمور كبروية كما يلي: 1 هل المراد بالكتاب في باب الجزية كتاب خاص؟ أو يعم جميع الكتب المشرعة دون غيرها؟ أو يشمل مطلق الكتاب السماوي، سواء المشرعة منها و غيرها؟ 2 لو شك في كون الصابئة أهل كتاب فهل يجري في حقهم حكم من له شبهة كتاب أم لا؟ و بعبارة أخري: هل وجود شبهة الكتاب يوجب دخولهم في من يقر علي دينه، و اندراجهم تحت عنوان أهل الذمة؟ 3 لو شك في عقائدهم من جهة التوحيد و الشرك و أمثالهما، فهل يجوز التمسك بدعواهم في ذلك، فيكون ما يقولونه عن أنفسهم و عقائدهم حجة علي غيرهم؟

بحث حول الصابئة، ص: 12

4 لو بقي الشك في أمرهم قائما، فما هو مقتضي القاعدة في ذلك؟ و

هل هناك أصل لفظي أو عملي يعمل بمقتضاه؟ و المحور الثاني يتضمن عدة نقاط صغروية تلقي الضوء علي جوانب من الموضوع، و هي: 1 هل هناك ما يمكن الاستدلال به علي أن الصابئة أهل كتاب؟ 2 هل يعدون من شعب الأديان الثلاثة (اليهود و النصاري و المجوس)؟ 3 هل العقائد المنسوبة إليهم تمنع من انعقاد الظن بكونها إلهية؟ 4 هل يشتمل اسمهم علي شي ء ينافي كونهم ذوي دين سماوي؟ فنقول

[المحور الأول]

اشارة

أما

الأمر الأول

من المحور الأول: فقد اشتهر أن عنوان «الكتاب» في الآيات القرآنية المبينة لحكم أهل الكتاب و منها آية الجزية «13»، يراد به التوراة و الإنجيل، قال في الجواهر: «إن المنساق من الكتاب في القرآن العظيم هو التوراة و الإنجيل»، و نقل عن منتهي العلامة دعوي الإجماع علي أن اللام في الكتاب في آية الجزية للعهد إليهما «14»، إلا أننا أثبتنا خلاف ذلك تفصيلا في ما سبق و قلنا ما حاصله إن عنوان «أهل الكتاب» في القرآن الكريم و إن كان لا يبعد أن يراد به اليهود و النصاري علي ما ربما يشهد به التتبع و التأمل إلا أن عنوان «الكتاب» في الآيات الشريفة القرآنية إذا استعمل مجردا عن ذاك التعبير التركيبي (أهل الكتاب) خاليا عن قرينة معينة، لا يراد به التوراة و الإنجيل أو كتاب خاص آخر من كتب الأنبياء السالفة، بل يراد به مطلق ما نزل من السماء وحيا علي نبي من أنبياء الله (عليهم السلام)، من غير اختصاص أو إشارة إلي كتاب خاص، و هذا أيضا مما يشهد به التتبع و التأمل في تفاصيل الآيات بناء عليه فالكتاب في آية الجزية هو الأعم من التوراة و الإنجيل، و لا شاهد علي تقييده بهما، بل يشهد

______________________________

(13) و هي قوله تعالي: «من الذين أوتوا الكتاب حتي يعطوا الجزية.» التوبة: 29.

(14) الجواهر 21: 232.

بحث حول الصابئة، ص: 13

علي كونه أعم منهما أنه يشمل كتاب المجوس بإجماع الأمة و بمعونة الروايات الحاكية عن أن للمجوس كتابا، و هكذا يتضح أيضا أنه لا شاهد علي تقييده بالكتب المشرعة، أي التي جاءت بدين جديد؛ إذ الظاهر أن كتاب المجوس ليس من الكتب المشرعة، و نبيهم ليس من أولي

العزم، فإطلاق الكتاب في الآية الشريفة يشمل غيره.

و لزيادة الإيضاح في ذلك نقول: إن الظاهر من معني الكتاب في الكلام عن الأنبياء و الأديان الإلهية، هو الحد الفاصل و المائز الفكري و الاعتقادي و العملي بين الإيمان و الكفر، فالكتاب هو الوحي الإلهي الذي يخرج الأفراد و الجماعات عن ربقة الأديان البشرية و المجعولة كعبادة الأصنام و الآلهة المزعومة، و يسوقهم إلي دين الله تعالي و عبادته، فهو الصحيفة الإلهية المشتملة علي معرفة الله تعالي و معرفة الحقائق التي تتصدي لتشريحها و تحقيقها الرسالات السماوية، و التي تقابل الإلحاد و الشرك و الوثنية، و هذا معني عام يشمل أنواع الكتب السماوية، قال الله تعالي: وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لٰا يَعْلَمُونَ الْكِتٰابَ «15»، و قال تعالي أيضا وَ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ وَ الْأُمِّيِّينَ أَ أَسْلَمْتُمْ «16»، فجعل أهل الكتاب و العلماء به في مقابلة الأميين، و يريد بهم عباد الأصنام، و قال تعالي مٰا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتٰابِ وَ لَا الْمُشْرِكِينَ «17»، فجعل الكتاب في مقابلة الشرك، و قال تعالي كٰانَ النّٰاسُ أُمَّةً وٰاحِدَةً فَبَعَثَ اللّٰهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتٰابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّٰاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، فجعل الكتاب مائزا للنبوة و حاكما لأهل الدين في ما اختلفوا فيه. «18»

و من الواضح أن هذه صفات لعامة كتب الله تعالي، فهذه الآيات و غيرها تدل علي أن الكتاب في مصطلح القرآن الكريم هو ما ينزل من الله تعالي علي أنبيائه لهداية الناس و الحكم فيهم و إخراجهم من ظلمات الكفر و الشرك و الإلحاد، فلم لا يكون الكتاب في آية الجزية بنفس المعني؟! و أي شاهد علي استعماله في الأخص منه؟

______________________________

(15)

البقرة: 78.

(16) آل عمران: 20.

(17) البقرة: 105.

(18) البقرة: 213.

بحث حول الصابئة، ص: 14

هذا، و تشهد أيضا لعموم معني الكتاب في باب الجزية رواية الواسطي عن بعض أصحابنا قال

سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن المجوس أ كان لهم نبي؟ فقال: نعم، أما بلغك كتاب رسول الله (صلي الله عليه و آله) إلي أهل مكة: أسلموا و إلا نابذتكم بحرب، فكتبوا إلي النبي (صلي الله عليه و آله): أن خذ منا الجزية و دعنا علي عبادة الأوثان، فكتب إليهم النبي (صلي الله عليه و آله): إني لست آخذ الجزية إلا من أهل الكتاب، فكتبوا إليه يريدون بذلك تكذيبه: زعمت أنك لا تأخذ الجزية إلا من أهل الكتاب ثم أخذت الجزية من مجوس هجر، فكتب إليهم رسول الله (صلي الله عليه و آله): إن المجوس كان لهم نبي فقتلوه و كتاب أحرقوه أتاهم نبيهم بكتابهم في اثني عشر ألف جلد ثور.

«19». و إطلاق الكتاب فيها علي كتاب المجوس بل إطلاق أهل الكتاب عليهم لا يدع المجال لاحتمال اختصاصهما بالتوراة و الإنجيل و أهلهما في مصطلح أهل الشرع.

و قريب منها مرسلة الصدوق عن النبي (صلي الله عليه و آله) و رواية الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين. «20»

و ضعف أسناد هذه الروايات لا يضر، بعد ما هو المعلوم من تلقي الأصحاب لمضامينها بالقبول و العمل بها في خصوص المجوس، مضافا إلي أن هناك روايات معتبرة وقع فيها التصريح بأن المجوس أهل كتاب، منها معتبرة سماعة: عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال

بعث النبي (صلي الله عليه و آله) خالد بن الوليد إلي البحرين (إلي أن قال:) فكتب إليه رسول الله (صلي الله عليه و آله): إن ديتهم مثل

دية اليهود و النصاري، و قال: إنهم أهل الكتاب.

«21» و منها موثقة زرارة

سألته عن المجوس ما حدهم؟ فقال: هم من أهل الكتاب، و مجراهم مجري اليهود و النصاري في الحدود و الديات

«22»، و إضمار الرواية غير مضر بعد كون المضمر مثل زرارة.

فبملاحظة هذه الروايات يظهر ضعف ما يتوهم و يدعي من أن إطلاق الكتاب بلا قرينة ينصرف إلي الكتابين؛ إذ مع التعبير عن المجوس بأهل الكتاب لا مجال لمثل هذه الدعوي.

______________________________

(19) الوسائل: ب 49 من جهاد العدو ح 1.

(20) المصدر السابق: ح 5 و 7.

(21) الوسائل: ب 13 من ديات النفس، ح 7.

(22) المصدر السابق: ح 11.

بحث حول الصابئة، ص: 15

ثم إن هناك روايات أخري في المجوس أيضا ورد فيها

سنوا بهم (أي بالمجوس) سنة أهل الكتاب

و المراد بأهل الكتاب فيها: اليهود و النصاري.

و هذا يشعر بأن إطلاق أهل الكتاب علي اليهود و النصاري كان دائرا في عرف المحادثات، و الظاهر أن ذلك كان من جهة غلبة وجود الفرقتين دون غيرهما في الجزيرة العربية.

و أين هذا من اختصاص عنوان أهل الكتاب بأهل الكتابين دون غيرهما؟! فضلا عن اختصاص عنوان الكتاب بالتوراة و الإنجيل.

و المتحصل من ذلك كله أن «الكتاب» في مصطلح القرآن و في لسان الأحاديث و هكذا في عرف المتشرعة في صدر الإسلام، حتي زمن الأئمة (عليهم السلام) كان يستعمل في مطلق الكتاب السماوي، و لا شاهد علي اختصاصه في آية الجزية بكتاب خاص التوراة و الإنجيل أو غيرهما فيستنتج من ذلك أن الكتاب الذي يحكم بالجزية في حق متبعيه هو مطلق الكتاب السماوي.

و يدل علي ذلك أيضا رواية الواسطي المتقدمة، حيث علل فيها رسول الله (صلي الله عليه و آله) حكمه بالجزية علي المجوس

بأنهم كان لهم رسول و كتاب، و مقتضاه عموم هذا الحكم بالنسبة لكل فرقة لهم كتاب، و المعلوم أن كتاب المجوس مغاير للتوراة و الإنجيل، و لم يعلم أنه كان كتابا مشرعا حاويا لدين جديد، و بناء عليه فالحكم شامل لكل كتاب من أي نبي من الأنبياء.

هذا، و ربما يستفاد من الكلام الذي نقلناه عن المفيد رحمه الله أن هناك دليلا من السنة علي اختصاص الجزية بالطوائف الثلاث (اليهود و النصاري و المجوس)، و إذا صح ذلك فإطلاق ما عرفت في الآية الكريمة (آية الجزية) و رواية الواسطي يقيد بهذا الدليل، و يكون هذا شاهدا علي إرادة خصوص الكتب الثلاثة من الكتاب في الآية، قال في طي كلامه المنقول سابقا: و أما نحن فلا نتجاوز بإيجاب الجزية إلي غير من عددناه لسنة رسول الله (صلي الله عليه و آله) فيهم و التوقيف الوارد في أحكامهم إلي آخر كلامه الشريف.

إلا أنه لم يتضح لنا المراد من السنة في كلامه، فإن أراد السنة القولية، فليس

بحث حول الصابئة، ص: 16

في ما بأيدينا من الروايات ما يدل علي اختصاص الجزية باليهود و النصاري و المجوس، و لم نعثر علي من ادعي وجود رواية بهذا المضمون، حتي من قريبي العهد بزمان المفيد كأصحاب المجاميع الحديثية و غيرهم، بل هناك بعض ما ربما يستفاد منه تعميم الجزية لجميع الكفار، كما ستسمعه إن شاء الله.

و إن أراد السنة الفعلية بمعني عدم وضع الجزية علي الصابئة في زمان حياة النبي (صلي الله عليه و آله) فهي: أولا: غير ثابتة إذ عدم النقل أعم من عدم الوقوع و ثانيا: لو سلم فربما يكون ناشئا من عدم وجود الصابئة في عداد القانطين في رقعة الفتوح

الإسلامية آنذاك، فهؤلاء كانوا ساكنين في الميسان و الحرنان، و كلا المكانين قد فتحا بعد وفاته (صلي الله عليه و آله)، و ربما يكون ناشئا عن أسباب أخري.

و الحاصل أن السنة الفعلية في عدم أخذ الجزية من الصابئة لا تكفي لإثبات أن الحكم فيهم عدم الجزية، نعم لو كان هناك ما يدل علي محاربتهم لكان دالا علي المطلوب بوجه، و أني يثبت ذلك؟! و حاصل الكلام في النقطة الأولي هو أن الكتاب في باب الجزية لا ينحصر في الكتابين كما لا ينحصر في الكتب المشرعة، بل لو فرض ثبوت تبعية قوم لكتاب يحيي أو داود أو إدريس مثلا، فهؤلاء من الذين أوتوا الكتاب، فيحقن دماؤهم و يقرون علي دينهم، و يؤخذ منهم الجزية.

الأمر الثاني:

إذا لم يحرز صغرويا أن الصابئة أهل كتاب من الكتب السماوية، فهل وجود الشبهة في أمرهم و عدم الجزم بخروجهم من دائرة اتباع الأنبياء يكفي في جريان حكم أهل الكتاب فيهم من إقرارهم علي دينهم و إجراء عقد الذمة معهم و غير ذلك؟ أم لا، بل لا بد في ذلك من إحراز كونهم من متبعي الأنبياء و الكتب السماوية؟ و إجمال القول في ذلك: أن أحد العناوين التي تكرر ذكرها في هذا الباب من الكتب

بحث حول الصابئة، ص: 17

الفقهية عنوان «من له شبهة كتاب»، و الظاهر أن هذا التعبير ليس له أصل حديثي إذ لم نجد في روايات هذه الأبواب ما يمكن استقاء هذا التعبير منه، و إنما نشأ ذكره من عصر شيخ الطائفة رحمه الله، و هو أول من وجدنا هذا العنوان في كلماته، قال في المبسوط: الكفار علي ثلاثة أضرب: أهل كتاب و هم اليهود و النصاري. و من له

شبهة كتاب فهم المجوس فحكمهم حكم أهل الكتاب. إلي آخره. «23»

و أخذ منه تلميذه و معاصره القاضي ابن البراج «24»، ثم تبعهما في ذلك ابن إدريس و المحقق و العلامة رحمهم الله، و لم نجد في كلمات قدماء أصحابنا إلي زمان المحقق الحلي رحمه الله من استعمله غير من ذكرنا، و هؤلاء استعملوه تعبيرا عن المجوس و جعلوه مقابلا لعنوان أهل الكتاب المراد بهم اليهود و النصاري. و الظاهر من مساق كلماتهم أن في ذكر هذا التعبير نوع إشارة إلي مناط الحكم في أمر المجوس، فكان جريان ما يجري علي المجوس من الأحكام إنما نشأ من وجود الشبهة في أمرهم أو في كتابهم و إلا لم يكن وجه للعدول عن تسمية المجوس باسمهم إلي التعبير عنهم بعنوان كلي، فالروايات الواردة في المجوس إنما تتصدي لحكم المجوس بعنوان المجوس فقط، فلم يكن الباحث في بيان حكمهم كمجوسيين بحاجة إلي ذكر عنوان كلي كهذا، و علي هذا فيكون ذكر هذا العنوان أعني وجود الشبهة في أمر كتابهم، بحكم الإشارة إلي أن هذا هو المناط في حكمهم.

و علي هذا فالحكم لا ينحصر فيهم، بل يجري في كل نحلة تشترك معهم في هذا المناط أعني وجود الشبهة.

و مما يقوي هذا الاحتمال في كلامهم ما ذكره العلامة رحمه الله في المنتهي، فإنه قال في مقام الرد علي أبي حنيفة الذي قاس مشركي العرب بأهل الكتاب و المجوس ما لفظه: و الجواب بالفرق بين المقيس و المقيس عليه فإن أهل الكتاب لهم كتاب يتدينون به، و المجوس لهم شبهة كتاب ثم نقل رواية الواسطي ثم قال: و الشبهة تقوم مقام الحقيقة في ما بني علي الاحتياط، فحرمت دماؤهم للشبهة، بخلاف من

لا كتاب له و لا شبهة كتاب، انتهي.

فاستدلاله لحكم المجوس بوجود الشبهة في أمرهم كالصريح في

______________________________

(23) المبسوط 2: 298. ط- قم.

(24) المهذب 1: 298. ط قم.

بحث حول الصابئة، ص: 18

أن عنوان «من لهم شبهة الكتاب» لا يراد به الإشارة إلي المجوس فحسب، بل هو حامل لاستدلال عام يشمل المجوس و غيرهم من الفرق التي يكون فيها مثل ما كان في المجوس من الشبهة.

و يؤيد ذلك كلامه الآخر في المنتهي فإنه قال في مقام تقسيم الكفار إلي الذمي و الحربي: فالذمي يشمل من له كتاب كاليهود و النصاري و من له شبهة كتاب كالمجوس، انتهي.

فقوله: «كالمجوس» فيه إشعار إلي أن المجوس أحد المصاديق لهذا العنوان الكلي، لا المصداق المنحصر له.

و حاصل ما ذكرنا إلي هنا هو أن المناط في إلحاق المجوس باليهود و النصاري في أحكامهم هو وجود الشبهة في أمرهم و عدم إحراز كونهم غير منتمين إلي نبي من الأنبياء و كتاب من الكتب السماوية.

ثم إن إناطة حرمة الدماء و النفوس بالشبهة أمر موافق لما علمناه من الشرع، من الاحتياط في أمر الدماء و الأموال و الفروج، مضافا إلي أن من الممكن القول بأن هدر الدماء و حل النفوس إنما يختص بالمحاربين للدولة الإسلامية دون غيرهم من الكفار، و إن حكم القتل و القتال بالنسبة إلي الكفار ليس أمرا شاملا لكل كافر إلا ما خرج، بل يختص بطوائف منهم علي ما احتملناه و نفينا عنه البعد في بعض المباحث السابقة و علي فرض قصور الدليل علي ذلك فلا أقل من الاحتياط الذي أشرنا إليه في الطوائف التي قامت الشبهة في أمرهم، و قد سمعت فيما نقلناه عن العلامة رحمه الله أن: «الشبهة تقوم مقام الحقيقة

في ما بني علي الاحتياط، فحرمت دماؤهم (أي المجوس) للشبهة».

فهذا المقدار مما لا يحتاج إلي زيادة تكلف في الاستدلال، إلا أن معاملة أهل الكتاب لا تنحصر في حرمة نفوسهم و أموالهم، بل تشمل عقد الذمة معهم و الذي يشمل كثيرا من الفروع و الأحكام، و من المعلوم أن ما أنيط به حرمة الدماء و الأموال من وجود الشبهة و لزوم الاحتياط لا يكفي لإثبات تلك الأحكام، إلا أن يدعي الأولوية في ذلك بأن يقال: الجزية و سائر ما يكلف الذمي به تكون

بحث حول الصابئة، ص: 19

بمنزلة العوض الذي يؤديه في مقابل حقن دمه و حرمة نفسه و ماله، فإذا كلفنا الكتابي بذلك فالمشتبه بالكتابي أولي منه به.

فالحاصل: أن القول بجريان أحكام أهل الكتاب في من يحتمل كونه كتابيا مما لا يبعد عن القواعد الفقهية المتسالم عليها، فهذا هو الوجه في ذكر عنوان «من له شبهة كتاب» في كلمات بعض القدماء، و جعله قسيما لأهل الكتاب موضوعا و مشتركا له حكما، و لكن هذا كله بناء علي أن المراد من الشبهة في العنوان المذكور الشبهة و الشك في كونهم أهل كتاب، فالشبهة هنا بناء علي هذا المعني من قبيل شبهة الأمان حيث قلنا هناك إن من احتمل في حقه الأمان فهو محقون، كما أن من توهم الأمان بالنسبة إلي نفسه كمن سمع صوتا من مسلم فتوهمه أمانا له أيضا محقون، مع أن في المثال الأول يحتمل عدم الأمان في الواقع، و في المثال الثاني عدم الأمان معلوم واقعا، إلا أن الشارع حكم بترتيب آثار الأمان في المثالين احتياطا في أمر الدماء و النفوس، فهنا أيضا يحكم في حق مشتبه الكتابية بأحكام أهل الكتاب احتياطا للدماء و

النفوس.

و أما بناء علي أن يكون المراد من «شبهة الكتاب» ما احتملناه سابقا في البحث عن حكم المجوس من أن المراد بالشبهة المشتبه فيه، و المعني: أن ما بيد القوم من الكتاب الذي يزعمونه كتابا سماويا ليس هو الكتاب السماوي الذي نزل علي نبيهم بمعني أن الأمر اشتبه عليهم في ذلك، كما هو الحال في المجوس بحسب ما ورد فيهم من الروايات، حيث ورد أنه كان لهم نبي و قد أنزل عليه كتاب و لكن أحرق الكتاب و لم يبق منه شي ء، فما هو الآن بأيديهم ليس هو الكتاب الحقيقي النازل من السماء بل شي ء مشتبه به، فعلي هذا المعني يختلف الأمر مع ما ذكرناه علي المعني السابق إذ الحكم بالنسبة لمن حاله هكذا كالمجوس ليس حكما احتياطيا لأنهم أهل الكتاب واقعا و ليس من جهة اشتباههم بأهل الكتاب، فالحكم فيهم بعينه هو الحكم في اليهود و النصاري، إلا أن صحة استعمال هذا التعبير في حق كل طائفة و نحلة يتوقف علي إثبات كونها أهل

بحث حول الصابئة، ص: 20

كتاب واقعا بدليل معتبر، كما هو الحال في حق المجوس، و لا يكفي فيه الحدس الظني من طريق مقارنة ما بأيديهم من الكتاب بما تحتويه الكتب السماوية عادة، أو من أي طريق ظني آخر.

فحينئذ لو فرض ثبوت مثل هذا الدليل في باب الصابئة فهو، و إلا فإجراء عنوان «من له شبهة الكتاب» في حقهم مشكل.

و سوف يأتي إن شاء الله في بيان النقاط التالية ما يوضح الأمر أكثر.

الأمر الثالث:

هل يجوز التمسك بدعواهم في عقائدهم إذا ادعوا التوحيد و الاعتقاد بنبي من الأنبياء و كتاب من الكتب السماوية و أمثال ذلك؟ ربما يتبادر ذلك إلي الذهن من وجوه:

أولا: أفتي الفقهاء رحمهم الله بحجية قول الكافر إذا ادعي أنه كتابي بمعني أهل الكتاب المعروفين أعني اليهود و النصاري.

قال في المبسوط: إذا أحاط المسلمون بقوم من المشركين فذكروا أنهم أهل كتاب و بذلوا الجزية فإنه تقبل منهم. إلي آخر كلامه. «25»

و الظاهر أنه أراد من أهل الكتاب اليهود و النصاري المعروفين بهذا العنوان، فإذا كان قول الكافر حجة في ذلك فلم لا يكون حجة إذا ادعي أنه موحد و أنه من متبعي أحد أنبياء الله تعالي (عليهم السلام)؟!.

ثانيا: أن الآية الشريفة وَ لٰا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقيٰ إِلَيْكُمُ السَّلٰامَ لَسْتَ مُؤْمِناً. «26» تجعل قول من كان يعرف بالكفر حجة في دعواه الإسلام، فلم لا يكون حجة من باب تنقيح المناط في دعواه التوحيد و الإيمان بنبي من الأنبياء (عليهم السلام)؟! إذ المناط هو عدم التعرض لمن يظهر أنه ممن لا يجوز التعرض لهم، سواء من جهة الإسلام أو من جهة الاندراج في الطوائف الذين لا يتعرض لهم من الكفار، و ليس خصوصية لدعوي الإسلام، و لذا لو ادعي أنه من أهل الذمة يسمع منه أيضا.

و ثالثا: أن قبول قول أهل الملل في عقائدهم أمر عقلائي لا يتخلف عنه العقلاء

______________________________

(25) المبسوط 2: 37.

(26) النساء 94.

بحث حول الصابئة، ص: 21

عادة، و ذلك من جهة الظن النوعي بكونهم صادقين في دعواهم هذه، و السر في ذلك أن من يعتقد بشي ء إنما يعتقد به من جهة أنه يراه حقا و صدقا، بل يراه الشي ء الوحيد الذي ينبغي أن يعتقد به و لذا تراه صادعا بعقيدته إذا لم يوجد الدواعي الموجبة لإخفاء عقيدته كالخوف و التقية، فلا يعقل أن يقول أهل ملة بأجمعهم و في مر الأزمان عن ملتهم و

نحلتهم التي يتبعونها غير ما يعلمون منها، فقولهم حجة علي غيرهم في ما يقولون عن نحلتهم بحسب هذا البناء العقلائي الذي لم يردع عنه الشارع المقدس.

هذا، و يمكن الخدشة في الوجوه المذكورة بما يوهن الاستدلال بها.

أما الوجه الأول فيمكن التفريق فيه بين المقيس و المقيس عليه بأن دعوي الكافر في ما ذكره الشيخ رحمه الله إنما هو إخبار عن أمر قائم بنفسه أي إيمانه و عقيدته، و لا يعرف ذلك إلا من قبله، و في مثله لا مناص عن قبول قول المدعي، و بذلك أفتي الفقهاء في أمثاله، و لذا تري أنه إذا أمكن الوصول إلي الواقع بواسطة البينة المتشكلة ممن أسلم منهم و صار معدلا و تبين كذب الدعوي بطل العهد و الذمة. «27»

و هذا بخلاف ما نحن فيه إذ الدعوي هاهنا ليس أمرا راجعا إلي اعتقاد الشخص بأمر معلوم حتي يكون أمرا لا يعرف إلا من قبله، بل راجع إلي أمر أعم من ذلك أعني اشتمال الدين الذي يعتنقه علي عقيدة التوحيد و كذا و كذا. و بعبارة أخري: هناك فرق بين أن يدعي أحد أنه من اليهود مثلا، و أن يدعي أن دين اليهود يشتمل علي كذا و كذا من العقائد و الأحكام، ففي الأول يجري كلام الشيخ رحمه الله، و أما في الثاني فلا لأن هذا ليس مما يكون قائما بنفس المدعي، و ليس مما لا يمكن معرفته إلا من قبله، حتي يلزم قبول قوله فيه، بل هو أمر خارجي يمكن أن يعرفه كل من بحث و فحص عنه، فلا يلزم قبول قول المدعي فيه.

و أما الوجه الثاني، ففيه: أولا: أن الآية الشريفة لم تأمر بقبول دعوي المدعي، بل أمرت بالتبين

و التثبت

______________________________

(27) انظر المبسوط 2: 37.

بحث حول الصابئة، ص: 22

و عدم التسرع إلي قتل من يدعي الإسلام أو السلم بداعي ابتغاء عرض الحياة الدنيا، بل يمكن استئناس عدم قبول قول المدعي من إيجاب التبين في الآية إذ لو كان قبول قوله جائزا لما بقي وجه للتبين.

و ثانيا: أن ما ذكر من المناط غير مقطوع به إذ كم فرق بين دعوي من يدعي الإسلام و دعوي من يظهر الكفر به، و الآية الشريفة بصدد بيان حكم الأول، و لا يبعد وجود خصوصية في مدعي الإسلام دون غيره، و أن يكون المناط هو لزوم الاحتياط في دماء من يحتمل فيه الإيمان به، و عدم السماح لتطرق الدواعي النفسية و الشخصية في هذا الأمر الخطير.

و أما الوجه الثالث فيمكن أن يقال فيه: بأن الآية الشريفة الآمرة بالتبين فَتَبَيَّنُوا وَ لٰا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقيٰ إِلَيْكُمُ السَّلٰامَ. «28» ردع من ناحية الشارع عن قبول قول المدعي في أمر الدين، فلو سلم ما ذكرتم من بناء العقلاء فهو مردوع عنه من قبل الشارع المقدس. هذا، و لكن يمكن دفع شبهة الردع عن هذا الوجه بأن الأمر بالتبين لو سلم كونه ردعا عن قبول قول مدعي الإيمان دائما فلا يكون ردعا عن قبول ما يقوله أهل الملل و الأديان عن مضمون نحلتهم و ما تتضمنه من العقائد و الأحكام، فالآية أجنبية عما نحن فيه بالمرة، فالوجه الثالث مما ذكرناه في مقام إثبات جواز التمسك بدعوي الكافر في معتقداته متين و سالم عن الإيراد، و يمكن توضيحه بأن يقال: إن المناط في اعتبار كثير من القواعد العقلائية المقبولة شرعا كقاعدة الصحة في باب العقود و الإيقاعات و قاعدة جواز إقرار العقلاء علي أنفسهم

و قاعدة من ملك شيئا ملك الإقرار به و أمثالها من القواعد الكثيرة المعمول بها في الفقه هو بناء عرفي عقلائي علم من الشارع المقدس إمضاؤه له و اعتباره لديه، لا بمعني الإمضاء و جعل الاعتبار في كل واحدة من هذه القواعد علي حدة حتي يناط الاعتبار الشرعي في كل منها بإمضاء الشارع له

______________________________

(28) النساء: 94.

بحث حول الصابئة، ص: 23

بالخصوص و يكون مقتضي القاعدة عند الشك في إمضاء الشارع لواحدة منها عدم الاعتبار، بل بمعني تصديق الشارع لما يشترك فيه الكل من الاعتماد علي ما يتعامل به الناس في الأمور الراجعة إليهم، و عدم الاعتناء باحتمال وقوعها غير صحيحة و غير منطبقة علي ما هو الحق الحقيق، و البناء علي صحة ما يأتون به لمصالحهم أو ما يبدونه من الأعمال لجلب النفع إليهم أو دفع الشر عن أنفسهم، فحاصل هذا البناء العقلائي الذي لم يردع عنه الشارع المقدس هو الاعتماد علي أعمالهم و أقوالهم المعتادة لهم في أمورهم و شئونهم و البناء علي صحتها و إلا لم يبق لتعامل الناس بعضهم مع بعض أساس يعتمد و يتكأ عليه، و من ذلك ما يبدون و يظهرون من عقائدهم و أديانهم، فإذا أراد أحد التوصل إلي ما يحتويه الدين البرهمي أو البوذي فلا طريق له إلي ذلك غير الرجوع إلي أقوال أهل ذاك الدين و ما كتبوه عنه في كتبهم و آثارهم، فهم حجة علي غيرهم في ذلك لدي العقلاء، طبعا في ما لم يرد في ذلك ما يعارض دعواهم من الصادق المصدق.

و علي هذا، فالتمسك بدعوي الصابئة في بيان عقائدهم و ما ينتحلونه من المعارف و الأحكام أمر عقلائي موافق لبناء العقلاء في أمثال ذلك، فلو

فرض أنهم يدعون الإيمان بالله و اليوم الآخر و الاتباع لنبي من أنبياء الله المعروفين لدينا و العمل بكتاب من الكتب السماوية التي يفرض نزولها من عند الله، فمقتضي القاعدة العقلائية التي لم يردع عنها الشارع هو الأخذ بكلامهم و التبني لدعواهم بغير تطرق وسوسة و ريب في ذلك.

و سوف يأتي في بعض الأمور اللاحقة دعواهم لعقيدة التوحيد و الإيمان بالله و الملائكة و اليوم الآخر و التبعية لبعض أنبياء الله تعالي.

الأمر الرابع:

لو بقي الشك في كونهم ممن أوتي الكتاب، فما هو مقتضي القاعدة في ذلك؟ و هل هناك أصل لفظي أو عملي يعمل بمقتضاه؟.

ظاهر كلام الشيخ رحمه الله في الخلاف أن الأصل بالنسبة إلي كل ملة لم يحرز كونهم

بحث حول الصابئة، ص: 24

كتابيين هو عدم قبول الجزية منهم و عدم إقرارهم علي دينهم.

قال في مقام الاستدلال علي جريان هذا الحكم بالنسبة للصابئة: دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم، و أيضا قوله تعالي فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «29» و قال فَإِذٰا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقٰابِ «30»، و لم يأمر بأخذ الجزية منهم، و أيضا قوله تعالي قٰاتِلُوا الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ لٰا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لٰا يُحَرِّمُونَ مٰا حَرَّمَ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ لٰا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ حَتّٰي يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صٰاغِرُونَ «31».

فشرط في أخذ الجزية أن يكونوا من أهل الكتاب، و هؤلاء ليسوا بأهل الكتاب انتهي «32».

و حاصل كلامه رحمه الله أن هناك أصلا لفظيا، و هو عموم هذا الحكم في الآيات المذكورة بالنسبة إلي ما سوي أهل الكتاب من الكفار، فمتي لم يثبت الخروج عن هذا العموم بدليل خاص فمقتضي القاعدة عموم حكم العام له.

و

لا يخفي علي المتأمل أن قوله: «و هؤلاء ليسوا من أهل الكتاب» إنما هو نفي إحراز كونهم من أهل الكتاب، لا نفي كونهم كذلك واقعا إذ لا سبيل لأحد إلي الكشف القطعي بأنهم ليسوا بكتابيين إلا من طريق إخبار الصادق المصدق «33»، و المفروض عدم ورود دليل في باب الصابئة علي أنهم غير كتابيين، فالمراد: أنهم غير محرز كونهم كتابيين.

و قد صرح بذلك صاحب الجواهر رحمه الله، حيث قال: من شك فيه أنه كتابي يتجه عدم قبولها [أي الجزية] منه للعمومات الآمرة بقتل المشركين المقتصر في الخروج منها علي [عنوان] الكتابية، التي هي شرط قبول الجزية «34»، انتهي.

فموضوع الحكم في كلامه رحمه الله هو من شك في كتابيته.

أقول: للخدشة في ما يستفاد من كلام الشيخ رحمه الله و الذي تبعه فيه صاحب الجواهر رحمه الله مجال: أما أولا: فلأن العمومات المشار إليها في كلام صاحب الجواهر و منها الآيتان المذكورتان في كلام الشيخ رحمه الله قد سبق الحديث عنها بالتفصيل (في الأبحاث السابقة)، و قلنا إنها أو أكثرها ناظرة إلي حكم مشركي الحجاز من عبدة الأوثان الذين

______________________________

(29) التوبة: 5.

(30) محمد (ص): 4.

(31) التوبة 29.

(32) الخلاف 5: 543.

(33) إلا أن يكون مراده من أهل الكتاب خصوص اليهود و النصاري.

(34) جواهر الكلام 21: 231.

بحث حول الصابئة، ص: 25

كان رسول الله (صلي الله عليه و آله) و المسلمون يومئذ مبتلين بهم كأعداء محاربين، و ليس فيها تعرض لحكم مطلق الكافر بالمعني العام أي الذي لم يتدين بما جاء به نبي الإسلام (صلي الله عليه و آله)، و ليست بصدد الأمر بقتلهم علي العموم، و لا أقل من الشك في ذلك و كون هذا المقدار هو القدر المتيقن من

مدلول الآيات.

و ثانيا: أن ما أفاده الشيخ و صاحب الجواهر (رحمهم الله) كأصل متبع في باب المعاملة مع الكفار أعني الحكم بعدم الجزية في من يشك في كونه ممن أوتي الكتاب من قبيل التمسك بالعام في الشبهات المصداقية لمخصصه بمعني أن من يشك في كونه داخلا في عنوان «من أوتي الكتاب» و هو عنوان المخصص لعمومات عدم إقرار الكافر علي دينه يشك في كونه داخلا في المراد الجدي من عنوان العام بعد ورود الدليل المخصص أعني الكافر غير الكتابي، و هذا يقتضي عدم جواز الاستدلال بالعام لحكم هذا الفرد المشكوك.

نعم، لو فرض أن عنوان «من أوتي الكتاب» و هو عنوان دليل المخصص مشتبه مفهوما بأن دار أمره بين صاحب الكتاب المشرع مثلا أو الأعم منه و من غير المشرع، فإجمال المخصص بهذا النحو لا يوجب عدم جواز التمسك بعموم دليل الكفار لأن الدليل العام يشمل صاحب الكتاب غير المشرع، و لا نعلم بشمول الدليل الخاص له، فالأمر في شمول الدليلين لهذا الفرد المشكوك دائر بين الحجة و اللاحجة.

و لعل هذا هو الوجه في استدلال صاحب الجواهر رحمه الله بعموم آيات القتال في بيان حكم الصابئة.

ثم إن ما ذكرنا من الفرق بين الصورتين أعني ما كانت الشبهة فيه من قبيل الاشتباه في المفهوم، و ما كان المفهوم فيه أمرا جليا غير مشتبه و لكن الشبهة أتت من ناحية الاشتباه في المصداق فتفصيله مذكور في الأصول.

و مجمل القول فيه: أنه في صورة الاشتباه المفهومي، و الذي يكون أمر المخصص دائرا مفهوما بين الأقل و الأكثر كما لو دار الأمر في معني الفاسق الذي ورد

بحث حول الصابئة، ص: 26

في الدليل المخصص موضوعا لعدم الإكرام، كقول القائل: لا تكرم

العالم الفاسق، دار أمره بين مرتكب الكبيرة فقط و مرتكب الأعم من الكبيرة و الصغيرة من الذنب، فدلالة هذا الدليل المخصص علي حكم الأقل و هو خصوص مرتكب الكبيرة معلومة، و لكن دلالته علي حكم مرتكب كل ذنب و لو صغيرة غير معلومة، فإذا كان هناك عالم مرتكب لصغيرة فدلالة المخصص عليه و شموله له غير معلومة، في حين أن دلالة العام عليه و هو إكرام كل عالم معلومة، فتعارض العام و الخاص بالنسبة لهذا المورد أعني العالم مرتكب الصغيرة تعارض بين الحجة و اللاحجة، فلا مناص من التمسك فيه بالعام، و في ما نحن فيه إذا فرض أن الدليل المخصص أعني به الجزية مجمل من حيث المفهوم فيحتمل فيه إرادة خصوص أهل الكتب الثلاثة أو الكتب المشرعة، كما يحتمل شموله لهم و لغيرهم، فدلالة هذا الدليل علي حكم غير أهل الكتب الثلاثة غير معلوم، في حين أن دلالة العام أي عمومات الكفار عليهم ثابتة بلا ريب، فيحكم عليهم بمقتضاه.

و أما في ما كان عنوان الدليل المخصص أمرا واضحا و إنما وقع الاشتباه من ناحية الشبهة المصداقية فالأمر يختلف تماما فإذا فرض أن مفهوم الفاسق في المثال الذي سبق ذكره غير مشتبه، و لكن شك في فسق زيد بالخصوص، فحينئذ لما كان المراد الجدي من قول القائل: أكرم كل عالم هو إكرام كل عالم غير فاسق و ذلك بقرينة المخصص المنفصل الذي يقول: لا تكرم أي عالم فاسق، فشمول العام للفرد المشكوك كونه فاسقا أو غير فاسق بعينه كشمول الدليل المخصص له في أن كلا منهما لا يشمل سوي ما أحرز كونه مصداقا له، و بعبارة أدق: أن كلا منهما لا يكون حجة إلا في

ما أحرز كونه مصداقا له، فكما لا يشمل الدليل المخصص هذا الفرد المشتبه كونه فاسقا كذلك لا يشمله الدليل العام.

فبناء علي كون الشبهة في باب عنوان «من أوتي الكتاب» و شموله للصابئة من باب الشبهة المصداقية، تكون النتيجة أن عمومات قتال الكفار لا تشمل الصابئين، فلا وجه لاستدلال الشيخ و صاحب الجواهر رحمهما الله بتلك العمومات لأجل إثبات

بحث حول الصابئة، ص: 27

خروجهم عن أحكام أهل الذمة، و قد علمنا في ما قبل أن الشبهة في هذا المورد ليست شبهة مفهومية في رأي صاحب الجواهر رحمه الله علي ما يبدو من التأمل في كلامه، و هو صحيح و واضح بناء علي ما ذكرناه سابقا من أن الكتاب في آية الجزية يشمل الكتب السماوية جميعا من غير اختصاص ببعضها، و عليه فلو بقي هناك شبهة في أمر الصابئة فهي إنما تكون من باب الشبهة المصداقية، و فيها لا يجوز التمسك بالعام كما مر.

فحاصل الكلام في هذا الأمر: أنه ليس هناك عموم أو إطلاق يمكن الاستدلال به في المشكوك كونه كتابيا علي جواز قتله و عدم إقراره علي دينه، نعم ترتيب جميع أحكام الكتابي علي هذا المشكوك أيضا مشكل لأن أدلتها إنما تثبتها لمن كان كتابيا، و لازمه إحراز هذا الموضوع، فما لم يحرز كونه كتابيا لا يمكن ترتيب تلك الأحكام عليه.

اللهم إلا أن يقال: إن حكم الجزية يشمل هذا الفرد المشكوك كونه كتابيا بمفهوم الأولوية، و قد سبق منا توضيح ذلك.

هذا كله في الأصول اللفظية، و أما الأصل العملي فربما يبدو أن المورد مجري استصحاب عدم كون الصابئة ممن أوتي الكتاب، و يمكن تقريره علي وجهين: الأول: أن يكون المراد بالعدم المستصحب هو العدم المفروض في ما

قبل وجود الصابئة، فيكون هذا الاستصحاب من جزئيات استصحاب عدم الخصوصية المفروض في ظرف عدم موضوعها، المعروف لدي الأصوليين باستصحاب العدم الأزلي، ففي ما نحن فيه يصدق أن هؤلاء قبل وجودهم لم يكونوا ممن أوتي الكتاب، فيستصحب هذا العدم.

و هذا النوع من الاستصحاب قد استقر علي إمكانه و صحته رأي أكثر متأخري الأصوليين، بذريعة تمامية أركان الاستصحاب فيه، و لذا ترونهم يتمسكون به في باب الشك في تذكية الحيوان المشكوك ذكاته و الشك في قرشية الامرأة المشكوك كونها قرشية و غيرهما من الأمثلة الكثيرة، إلا أننا مع الاعتراف بما يدعي من انطباق قاعدة الاستصحاب عليه شكليا و عدم قبول ما يورد عليه من هذه الجهة لم نتمكن من الاعتراف به بحسب شمول أدلة

بحث حول الصابئة، ص: 28

الاستصحاب عليه لفظا أو إطلاقا، و هكذا بحسب انطباق الاستصحاب عليه كقاعدة عقلائية متداولة في عرف العقلاء، و نري أن حكم العقلاء بعدم وجود الخصوصية المشكوك فيها في موضوع ما في صورة سبق السلب بانتفاء الموضوع إنما هو من باب أن الحكم بوجود كل خصوصية ذاتية كانت أو عرضية في أي موضوع من الموضوعات إنما يحتاج إلي وجود دليل لذلك، فحكمهم بعدم الخصوصية من باب عدم الدليل عليها، لا من باب الاستصحاب.

و التفصيل في ذلك موكول إلي محاله و لا يسعه المجال في ما نحن فيه.

الثاني: أن يكون المراد بالعدم المستصحب عدم نزول الكتاب علي الجماعة المعتنقة لهذه النحلة في أول الأمر، و هذا خارج عن استصحاب العدم الأزلي إذ العدم المستصحب إنما فرض في ظرف وجود موضوعه لا في ظرف عدمه، فكل جماعة يفرض اعتناقها أولا لنحلة ما إذا شك في نزول الكتاب السماوي عليها، يمكن استصحاب عدم

نزوله عليهم في ما قبل ذلك، و النتيجة هي أن الجماعة المعتنقة أولا لتلك النحلة و المسماة أولا بذاك الاسم ليست ممن أوتي الكتاب.

و هذا كاف في تنقيح هذا الموضوع بالنسبة إلي من يتبعهم في الأزمنة اللاحقة إذ المفروض عدم نزول الكتاب عليهم بعد تلك الأزمنة. و الاستصحاب علي هذا التقرير أيضا تام الأركان، و لا يرد عليه ما يمكن أن يورد علي استصحاب العدم الأزلي، إلا أن الاعتماد علي مثله في الأمور الخطيرة التي ترتبط بالنفوس و الأموال و الأعراض لا سيما في المسائل العامة الراجعة إلي الجماعات المتعاقبة و الأقوام المتتابعة مما لا يمكن المساعدة عليه و ذلك لوضوح أن إحالة أمر دماء الألوف من أفراد النوع البشري إلي مجرد عدم العلم بكونهم محقوني الدم بعيد عن مذاق الشرع، و لا يعهد عن التعاليم الإلهية و بالخصوص عن الشريعة الإسلامية التي تعتبر كرامة الإنسان و حرمة دمه من أعظم الأمور، و لا تسمح بهدر الدماء و هتكها بغير حق أن تحكم بحل دم إنسان واحد فضلا عن الجموع الكثيرة بمجرد الشك في حرمة دمائهم و اعتمادا علي أمثال هذا الاستصحاب.

بحث حول الصابئة، ص: 29

و توهم أن الاحتياط في أمر الدماء مختص بدماء المسلمين مردود بأن المناط في هذا الاحتياط إنما هو احتمال حقن الدم في مورده، و معلوم أن منشأ هذا الاحتمال لا ينحصر في الإسلام بل يشمل الكتابي المعاهد و أمثاله أيضا، فكلما وجد هذا الاحتمال من أي طريق كان و من أي منشأ، يكون المورد مورد الاحتياط، و الواضح وجود هذا الاحتمال في أمثال ما نحن فيه.

فالحاصل أن جريان استصحاب عدم الكتابية في ما نحن فيه لا يستقيم بوجه.

فالظاهر أن المورد

مجري أصالة الاحتياط من جهة لزوم ذلك في باب النفوس و الأموال و الأعراض، و الله العاصم.

هذا كله في الأمور الراجعة إلي كبريات المسألة.

و أما المحور الثاني أعني النقاط الصغروية التي لا بد من البحث عنها:

فالنقطة الأولي منها أنه: هل هناك ما يمكن الاستشهاد به علي أن الصابئة أهل كتاب؟

و الجواب علي ذلك أنه ربما يمكن الاستدلال علي أنهم أهل كتاب، بوجوه: منها: ما يستفاد من الآيات الكريمة القرآنية التي ذكر فيها اسم الصابئين، و هي ثلاث آيات، الآية الأولي قوله تعالي في سورة المائدة إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هٰادُوا وَ الصّٰابِئُونَ وَ النَّصٰاريٰ مَنْ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صٰالِحاً فَلٰا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لٰا هُمْ يَحْزَنُونَ. «35»

و قريب منها الآية الثانية و هي قوله تعالي في سورة البقرة إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هٰادُوا وَ النَّصٰاريٰ وَ الصّٰابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صٰالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لٰا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لٰا هُمْ يَحْزَنُونَ. «36»

و يستفاد من الآيتين أولا: أن عقائدهم مشتملة علي الإيمان بالله و اليوم الآخر و إلا لم يكن وجه لذكر ذلك عنهم.

______________________________

(35) المائدة: 69.

(36) البقرة: 62.

بحث حول الصابئة، ص: 30

و ثانيا: أن من آمن منهم بالله و اليوم الآخر و قرن ذلك بالعمل الصالح فهو من أهل النجاة، و هذا لا يكون إلا في صورة صحة هذا الدين و كونه نازلا من قبل الله تعالي.

و ثالثا: أن الأديان الثلاثة مستقلة بعضها عن بعض، علي ما هو الظاهر المتبادر من تعدادها مردفا و مقترنا بعضها مع بعض.

و ما ربما احتمل في بعض الكلمات من أن ذكر الصابئين من باب ذكر الخاص بعد العام، يبعده بل ينفيه ذكرهم بعد اليهود في آية و بعد النصاري في الآية الأخري.

و مما ذكرنا يعرف وجه المناقشة في ما ذكره بعض أعاظم

أساتذتنا أعلي الله مقامه في تفسيره، فإنه بعد نقل كلام طويل عن البيروني في تاريخ الصابئة و بعض ما ينسب إليهم من العقائد، قال: و ما نسبه إلي بعض من تفسير الصابئة بالمذهب الممتزج من المجوسية و اليهودية مع أشياء من الحرانية هو الأوفق بما في الآية فإن ظاهر السياق أن التعداد لأهل الملة «37»، انتهي.

فظهور الآية بأن الصابئين أهل ملة و هذا ما اعترف به رحمه الله يعارض ما توهمه من أن مذهبهم مزيج من المذاهب الثلاثة إذ ظاهر الآية كونهم أهل ملة غير الملل الأخري المذكورة فيها، لا أنها ملتقط بشري من سائر الأديان، مضافا إلي أن ما نسبه البيروني إليهم لا يعترف به المنتمون إلي هذا المذهب ظاهرا.

ثم إن ما ذكرناه من إيمانهم بالله و اليوم الآخر و إن دينهم صحيح و نازل من الله تعالي عبارة أخري عن كونهم من «أهل الكتاب» بناء علي أن هذا العنوان أعم من أن يكون الكتاب نازلا علي نبي هذه الجماعة ابتداء و بخصوصه، و أن يكون نازلا علي نبي آخر يتبعه و يروج دينه النبي الذي ينتمون إليه.

و أما بناء علي أن عنوان أهل الكتاب خاص بأمة نبي نزل عليه كتاب بالخصوص و لا يشمل أمة من كان بدوره تابعا لنبي آخر، فالآيتان بما ذكر من مفادهما ليس فيهما دلالة واضحة علي كون الصابئة من أهل الكتاب، و أن ما تدلان علي كونهم ذوي شريعة إلهية و لو مع عدم صدق عنوان أهل الكتاب عليهم.

و لعل من استفاد من الآيتين أن الصابئين من أهل الكتاب كبعض أعلام هذا العصر رحمه الله في جهاد منهاجه لم يفهم من عنوان أهل الكتاب إلا الأعم، و هو

الأظهر.

______________________________

(37) تفسير الميزان 1: 196.

بحث حول الصابئة، ص: 31

و أما الآية الثالثة فهي قوله تعالي في سورة الحج إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هٰادُوا وَ الصّٰابِئِينَ وَ النَّصٰاريٰ وَ الْمَجُوسَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللّٰهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ إِنَّ اللّٰهَ عَليٰ كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ «38».

و الظاهر من التصنيف الثلاثي فيها إن كل صنف يلي موصولا علي حدة، ذو طبيعة و حكم مباين للصنفين الآخرين فالصنف الأول هم المؤمنون، و المراد بهم من آمن بهذا الدين الحنيف، في قبال من رفضه جهلا أو عنادا أو لم يطلع عليه أصلا.

الصنف الثاني أهل الأديان النازلة من السماء، و إن شئت قلت: أهل الكتاب و هم اليهود و الصابئون و النصاري و المجوس، و الاقتصار علي الأديان الأربعة لعله من جهة وجود هذه الأربعة في رقعة البلاد القريبة إلي مهبط الوحي و مولد الإسلام في أول ظهور الدعوة الإسلامية.

و الصنف الثالث هم المشركون، و المراد بهم في التعبيرات القرنية غالبا عباد الأصنام و الأوثان، و إن كانت عقيدة الشرك غير منحصرة في هؤلاء، فأكثر الأديان الإلهية صارت بعد عهودها الأولي مشوبة بالشرك تدريجيا، و أما في هذه الآية الشريفة، فمقتضي المقابلة بين الذين أشركوا و غيرهم من الأصناف كون التعبير صريحا أو ظاهرا كمال الظهور في عبدة الأصنام و الأوثان.

و الحاصل أن هذه الآية لها ظهور تام في أن الصابئين في عداد اليهود و النصاري و المجوس من جهة كونهم أهل دين و كتاب سماوي، و أن كلا من الفرق الأربعة مستقل في نفسه بمعني عدم كونه داخلا و جزء من فرقة أخري.

و المتحصل مما ذكرنا: أن الاستدلال بالآيات الثلاثة علي أن الصابئة في عداد أهل الكتاب مما

لا بأس به بل لا غبار عليه.

الوجه الثاني مما يمكن الاستدلال به لذلك: المضامين المنقولة عن كتبهم التي يعتبرونها سماوية و ينسبونها إلي أنبياء الله المعروفين لدينا، كما نقل عن ما يسمي «كنزاربا» و معناه علي ما يقال الكنز الكبير، فإنها مشتملة علي عقائد لا تعهد إلا من الأديان الحقيقية الإلهية، كعقيدة التوحيد و المعاد و تسمية الحق المتعال بالأسماء

______________________________

(38) الحج: 17.

بحث حول الصابئة، ص: 32

الحسني و الصفات العليا، و نسبة كل شي ء إليه و إلي إرادته، و ما إلي ذلك، و هم يدعون أن الكتاب المشتمل علي ذلك هو كتاب يحيي علي نبينا و آله و عليه السلام الذي يعتبرونه آخر أنبياء الله تعالي، أو كتاب شيث و صحف آدم، أو كتاب إدريس علي نبينا و عليهم السلام بحسب اختلاف ما ينقل عنهم.

فبناء علي ما رجحناه سابقا من تصديق أصحاب الملل و النحل في ما يبدونه من عقائدهم و كون ذلك حجة علي غيرهم بحسب البناء العقلائي غير المردوع عنه شرعا، لا يبقي مجال لإنكار صحة هذا الدين في أصله و أنه منسوب إلي أحد أنبياء الله (عليهم السلام).

ثم إنه لما كان أصل نزول كتاب علي يحيي و آدم (عليهما السلام) مسلما نطق به القرآن الكريم كما سنذكره فنسبة كتاب الصابئين إلي أحدهما إما أن تكون صادقة أو خاطئة، فعلي الأول يكون هؤلاء أهل كتاب بلا ريب، و علي الثاني يكون ممن بيدهم شبهة كتاب كالمجوس علي ما بيناه في معني هذا العنوان فكونهم ممن يقر علي دينهم كاليهود و النصاري و المجوس أمر لا محيص من الالتزام به.

و أما نزول الكتاب علي يحيي (عليه السلام) فهو و إن كان الظاهر من قوله تعالي

يٰا يَحْييٰ خُذِ الْكِتٰابَ بِقُوَّةٍ. «39»، لكن لو نوقش في دلالته بأن المراد بالكتاب فيه هو التوراة بدلالة لام العهد، فلا يدل علي كون يحيي صاحب كتاب آخر حتي يحتمل كونه هو الذي بيد الصابئة، و ليس هذا الذي يدعونه كتاب يحيي هو التوراة حتي يحكم بكونهم من أهل التوراة، فلا شي ء هناك يصحح لهم عنوان «أهل الكتاب» أو أهل شبهة كتاب لقلنا في الجواب أولا: يكفي في إثبات الكتاب ليحيي (عليه السلام) آيات سورة الأنعام، حيث يقول تعالي بعد ذكر عدة من الأنبياء منهم زكريا و يحيي و عيسي و إلياس و إسماعيل و اليسع و يونس و لوط و غيرهم و ذكر اجتبائهم و هدايتهم من عند الله تعالي أُولٰئِكَ الَّذِينَ آتَيْنٰاهُمُ الْكِتٰابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ «40»، و الظاهر من الآية بلا ريب أن كلا من هؤلاء المذكورين أوتي كتابا مستقلا غير ما أوتي الآخرون بقرينة الحكم و النبوة، و بعيد غاية البعد أن يحمل الكتاب في الآية علي كتاب خاص أو كتابين و هما التوراة و الإنجيل، كما أن من البعيد جدا أن يكون المراد بإيتاء الكتاب لنبي من الأنبياء إلزامه بالعمل بكتاب نزل علي

______________________________

(39) مريم: 12.

(40) الأنعام: 89.

بحث حول الصابئة، ص: 33

نبي آخر قبله، و الشاهد علي ذلك أنه لا يقال إن عيسي (عليه السلام) أوتي التوراة مع أنه كان مصدقا للتوراة و علمه الله إياه و أمره بالعمل بما فيه، و لكنه أوتي الإنجيل، قال الله تعالي وَ قَفَّيْنٰا عَليٰ آثٰارِهِمْ بِعِيسَي ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرٰاةِ وَ آتَيْنٰاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُديً وَ نُورٌ. «41»

ثم بعد ما ثبت دلالة آية سورة الأنعام علي أن يحيي (عليه

السلام) أوتي كتابا مستقلا عن التوراة فاللام في آية سورة مريم أعني قوله تعالي يٰا يَحْييٰ خُذِ الْكِتٰابَ بِقُوَّةٍ يمكن أن يكون للعهد إلي هذا الكتاب، بل هو أقرب احتمالا من كونه إشارة إلي التوراة كما يظهر وجهه من بعض ما ذكرناه آنفا، بل يمكن أن يقال: إن من البعيد عن الحكمة و البلاغة أن يؤمر نبي من الأنبياء و قد أوتي الكتاب من الله تعالي بأن يأخذ كتاب نبي آخر سبق عليه مئات من السنين، و أن يأخذه بقوة، خصوصا مع العلم بأن ذاك الكتاب مع ما جاء به من الشريعة سوف ينسخ عما قريب بكتاب نبي خر من أنبياء أولي العزم و هو عيسي (عليه السلام).

و ثانيا: سلمنا ذلك، و لكن لم يدل دليل قطعي علي أن التوراة الموجود هو جميع التوراة المنزل علي موسي (عليه السلام)، فليكن هذا الذي بيد الصابئة جزء من التوراة الواقعي التام، كما أن الذي بيد اليهود جزء آخر منه، و عليه فليكن هؤلاء أهل كتاب هو التوراة لكن من طريق يحيي (عليه السلام)، بل لو ادعي أنه الجزء الأصح منه بالقياس إلي الذي كان بيد اليهود المعاصرين ليحيي المحرفين المنحرفين، لم يكن بعيدا عن الاعتبار كثيرا.

ثم إن ما ذكرنا من احتمال انتساب كتاب الصابئين إلي يحيي يتأتي تماما بالنسبة لاحتمال انتسابه إلي آدم (عليه السلام)، و علي فرض التحريف و الغلط يكون من مصاديق عنوان شبهة الكتاب، كما سبق.

فنتيجة البحث في النقطة الأولي:

أن الأقوي و الأظهر بحسب الأدلة أن الصابئين يعدون من أهل الكتاب.

النقطة الثانية: هل الصابئة يعدون من شعب بعض الأديان الثلاثة:

اليهود

______________________________

(41) المائدة: 46.

بحث حول الصابئة، ص: 34

و النصاري و المجوس، أو أنهم نحلة أخري غير هؤلاء؟ و الجواب علي ذلك قد علم من

بعض ما ذكرنا في توضيح النقطة الأولي، فلا دليل علي ما قيل و قد مضي في ما نقلناه من كلمات بعض الفقهاء من أنهم شعبة من اليهود أو أنهم مجوسيون و أمثال ذلك مما نقله في الجواهر عن غير واحد من الفقهاء كالشافعي و ابن حنبل و السدي و مالك و غيرهم «42»، بل لعل مقتضي ما ذكرنا الجزم بخلافه.

و لا يخفي أنه لا يترتب علي تنقيح هذا الأمر كثير فائدة و أثر فقهي، فلا نطيل الكلام فيه، و لا نضيف علي ما سبق إلا ذكر أن اليهود و المجوس لا يعتبرون هؤلاء منهم، كما أن هؤلاء لا يعتبرون أنفسهم من اليهود أو المجوس، بل نقل عنهم أنهم لا يعتقدون بنبوة موسي (عليه السلام) و غيره من أنبياء بني إسرائيل غير يحيي (عليه السلام).

النقطة الثالثة: ربما يتبادر إلي بعض الأذهان أن العقائد المنسوبة إلي الصابئة تمنع من انعقاد الظن بكونها إلهية

، فلا بأس بأن يجاب علي هذا السؤال: هل أن ما يشكل العقائد الأصلية أو المجموعة العقائدية لهم يشتمل علي مثل ذلك؟ و الحق الذي ينبغي الاعتراف به هو أننا لا نعرف من المعارف و الأحكام الدينية لهذه النحلة التاريخية و التي أصبح المنتمون إليها موجودين بين أيدينا و في عقر بلادنا شيئا كثيرا تسكن النفس بملاحظته إلي معرفة أصحابها، و الباحث في هذا الموضوع يجد في حقل البحث الموضوعي فيه فراغا كبيرا لم يسد مع الأسف مع ما بأيدينا من الإشارات الخاطفة الموجودة في كتب الملل و النحل، و لهذا فالقول الحاسم في باب عقائدهم و أحكامهم و تقاليدهم الدينية مما لا يسهل في هذا المقام، إلا أن الذي يبدونه من ذلك في بعض منشوراتهم و التي يقال عنها أنها مأخوذة من كتابهم الديني المسمي «كنزاربا» يرسم لنا صورة إجمالية

عن أس عقائدهم، فلنذكر من ذلك ما يفيدنا في البحث الفقهي: فمن جملة عقائدهم التي يدعونها و يصرون عليها التوحيد، فقد عقد في الكتيبة

______________________________

(42) راجع ج 21، ص 230.

بحث حول الصابئة، ص: 35

الصغيرة التي نشروها باسم «درفش» «43» فصل مخصوص بالتوحيد باسم «بوثة التوحيد» (و الظاهر أن بوثة في كتابهم تعادل القسم و الفصل، كالسورة أو الآية)، و مما جاء فيها ما ترجمته بالعربية هكذا: «إلهي منك كل شي ء، يا عظيم يا سبحان، يا حكيم يا عظيم، يا الله المتعال الكريم، علا قدرتك علي كل شي ء، يا من ليس له شبيه و لا نظير، يا راحم المؤمنين، يا منجي المؤمنين، يا عزيز يا حكيم، يا من ليس له شريك في قدرته، أسبح اسمك.».

و من جملتها الاعتقاد بالنبوة و الكتب المقدسة و بالملائكة و الجنة و النار و الدعاء، و أمثال ذلك، و من جملتها في باب الأخلاق و العبادات ما لا يبعد كثيرا عما يعهد عن الأديان الإلهية.

هذا في جانب، و في جانب آخر لهم عقائد ربما يستشم منها رائحة الخروج عما يعهد من التوحيد الخالص، فمن ذلك اعتقادهم بما يسمي «مندادهيي» الذي يقولون عنه بأنه أول من سبح الله تعالي و حمده، و أنه أحد الملائكة المقربين، و يقرنون اسمه في بعض البوثات باسم الرب تعالي، و من ذلك ما يري من التوسل بالملائكة الذين يسمونهم بأسماء عندهم و يعتبرونهم من المقربين، و يذكرون اسم آدم أبي البشر و يحيي (عليهما السلام) في عداد الملائكة، و يسلمون علي الأنهار المقدسة و الأماكن المقدسة و علي الحياة و سكان عالم الأنوار و غير ذلك.

و من ذلك تسميتهم أحيانا الله بأب الآباء، تعالي عما يقولون علوا

كبيرا.

و الحاصل أن في عقائدهم جملة من العقائد التوحيدية الحقة المقبولة، و زمرة من الأباطيل المنافية للعقيدة التوحيدية الخالصة.

و قد نقلناها عما نشروه تعبيرا عما لديهم من العقيدة و الشريعة ترجمة عن الأصل الآرامي «44» لكتابهم.

و لكن لا يخفي علي المتأمل في ذلك أن ما بأيديهم من العقائد المردودة ليس بأكثر عما هو معروف عن بعض الأديان الإلهية المحرفة المنسوخة، أصحاب الكتب الإلهية النازلة علي أنبياء الله، و هذا من أمر ما مر علي شرائع الله تعالي في خلقه أن

______________________________

(43) درفش: كلمة فارسية تعني العلم (بالتحريك).

(44) يدعون أن لغة كتابهم اللغة الآرامية التي كانت دارجة في ما بين النهرين قبل رواج اللغة العربية هناك، كما أنهم يدعون أن خطه الآرامي، إلا أن المقارنة بين هذا الخط و الخطوط القديمة يقرب إلي الذهن كونه آشوريا لا آراميا، و بزيادة التحقيق في هذا الأمر تزداد الحقيقة وضوحا.

بحث حول الصابئة، ص: 36

تعرضت يد التحريف و الجعل الناشئين تارة من الجهل و أخري من الأغراض المختلفة، و تطاولت علي أعظم و أغلي ما من الله به علي عباده، أعني الكتب السماوية و الأحكام الإلهية، فحرفتها عن مواضعها و مزجتها بالأباطيل و الخرافات، إلا أن ذلك كله لا يوجب خروج الدين المحرف عن كونه إلهيا في الأصل، و خروج أهله عن كونهم أهل الكتاب، و الله العاصم.

النقطة الرابعة: ذكر بعض من تعرض للتعريف اللغوي أو التاريخي للصابئين أن اسمهم هذا مشتق من «صبا» بمعني خرج

، و يقال لهم الصابئ لخروجهم من دين إلي دين.

و يذكرون في وجه ذلك أمورا (راجع: التفسير للرازي و غيره، و غير واحد من كتب اللغة)، فربما يتبادر إلي الذهن أن هذا لا يتلاءم مع الانتساب إلي أصل إلهي و نبي و كتاب سماوي.

أقول: أولا: في مقابل هذا الوجه في تسميتهم وجه آخر

ذكره بعض الفضلاء و المحققين في رسالة كتبها في التعريف بالصابئة، و هو أن هذه الكلمة (الصابئ) من أصل آرامي بمعني «المغتسل» و قد سموا بها لاهتمامهم بالغسل بالماء، بحيث أنه أحد أركان أحكامهم الشرعية و لذا يسمون في عرف أهل الملل بالصابئة المغتسلة.

و ثانيا: أمثال هذه الاعتبارات المبنية علي الحدس الظني مما لا وزن لها في استنباط الحكم الشرعي، حتي و لو لم يذكر في وجه تسميتهم ما ذكرناه عن ذاك البعض فإن هذه الوجوه الظنية لا تغني من الحق شيئا.

و التفصيل في تحقيق الحال في أصل الكلمة و وجه التسمية بها خارج عما نستهدفه، فهو موكول إلي محالها، و الله العالم.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.